نفسيات كشف غطاءها القرآن الكريم, نقلته للمنتديات من مجلة إسلامية
كاتب الموضوع
رسالة
نور الهدى مدير عام المنتدى
عدد المساهمات : 197 تاريخ التسجيل : 28/05/2010
موضوع: نفسيات كشف غطاءها القرآن الكريم, نقلته للمنتديات من مجلة إسلامية الخميس يونيو 03, 2010 5:39 am
إذا كان هناك عديد من الأدلة على الإعجاز القرآني ؛ فإن من ألوان الإعجاز ذلك المنحى النفسي الذي كشف به القرآن عن دخائل النفس البشرية فعرَّاها ، وأبانها ، وشخَّص خصائصها وما اتصفت به من خير أو شر ، وإيمان واطمئنان ، أو نفاق وظلم ونكران .
نماذج من النفوس البشرية كشفها القرآن الكريم
يُشقِّق القرآن دخائل النفس ومكنونات الضمير ، وأحاديث القلب وهمسات الوجدان ، وتصل بنا آيات القرآن إلى الأعماق فتظهر ما خفي ، وتكشف عما استتر ، وتُرينا ألواناً عدة ، وقطاعات ، وشرائح لنماذج نفسية متباينة ، وها هي ذي آيات كريمة تصل بنا إلى أغوار النفس البشرية وتُلقي الضوء على أبعادها ، فتكشف أقطارها : نفوس يحاط بها ، فتفرّ إلى الملجأ وتفزع إلى الملاذ ... ثم إذا تبدد ما ران عليها نضت عنها ثوب الخشوع .. وتنكرت وتنمَّرت !!
ونفوس لا تفتُر ولا تمل من طلب السعة ، ودوام النعم ، وامتداد أسباب الخير .. وإذا ما مسَّها شر أو ضر ارتدت إلى دياجير الظلام ، وآضت إلى أغوار اليأس وضباب القنوط ..
ونفوس غير هذي وتلك ، نفوس مشرقة نيِّرة مع الله في كل آن .. دعاء وشكر في النعمة أو النقمة ... ودعاء وشكر عند المنح وعند المنع .. ودعاء وشكر عند الرِّفد وعند الرفض ..لم يلوث صفاء قلوبهم حرمان ، ولم يبطرهم جزيل سيب أو كبير عطاء .
يصور القرآن العظيم كل هذه الحالات النفسية ، وينير لنا جوانبها ويبين دخائلها فيقول :
﴿ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله يسيركم في البر والبحر ، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ﴾ .. يونس 23
سفينة تسري وتجري .. تسري بمن فيها وتجري بهم ، تدفعها ريح طيبة تبعث البهجة والفرح في النفوس .. وسرعان ما تلبَّد الجو واكفهرّ .. وغضبت السماء وأظلمت الدنيا ، وعوت الرياح ، واهتزت السفينة في يد الأمواج التي أحدقت بها من كل مكان .. وتبين لركاب السفينة نهايتهم .. ولاحت لهم الخاتمة .. ففزعوا إلى الله داعين إياه مخلصين له الدين في التضرع والدعاء ؛ إذ لا ملجأ منه إلا إليه ، وتضرعوا إليه بكيانهم وعاهدوه قائلين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين .. وحقق ربهم رجاءهم ودعاءهم فأنجاهم .. وما أن وطئت أقدامهم الأرض وأحسوا الأمان حتى عادوا سيرتهم الأولى ورجعوا إلى ما كانوا عليه ولم يفوا بالعهد ولم يقوموا بالشكر ، بل بغوا وطغوا وأفسدوا وجاروا ..
﴿ قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفيةً لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ، قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ﴾
الأنعام 63 ، 64
﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً ، أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً ثم لا تجدوا لكم وكيلاً ، أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا تبيعاً ﴾
الإسراء 67، 69
﴿ وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ، ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ﴾
النحل 53 ، 54
﴿ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ، إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ﴾
هود 9 ، 11
الفرح بالنعمة واليأس عند البلاء
الإنسان مطلبه النعيم ، ومبتغاه الإكثار من الخير ، يرنو إلى تمتيع نفسه وحسه وجسده بألوان اللذائذ وأسباب النعيم ، فإذا ما ناله الخير استبشر ، وسعد ، وتهلل ، وشاع الرضا والحبور في نفسه .. أما إذا مسَّه - فضلاً عن أن يتمكن منه - ضر أو شر اسودت الدنيا في عينيه ، وملأ اليأس قلبه ، فهو يريد الحياة ضوءاً متلألئاً ، وسناء مشعاً ، لا يشوبه ضعف أو خفوت .. ويرغب في كل شيء طامعاً أن يحلو ويخلو له كل شيء .. وإلا فاليأس يملأ عليه الشعاب ويسد عليه المسالك .
فإذا ما عفَّت نعمة الله على آثار النقمة ، ومكَّن الله له بتحقيق أمله واستجابة رجائه انتفخ وانتفش زاعماً أنَّ ما يرتع فيه من خصب وخير إنما مردّه إلى جهوده الشخصية وجهاده وجدّه ، ويغلو متخيلاً أن مكاسبه ستدوم ومنجزاته ستبقى .. ثم يسدر في تغاليه ومغالاته مؤكداً أن سعيد الدنيا هو سعيد الآخرة وأنه سينضم إلى ما معه في الدنيا الحسنى عندما يرجع إلى ربه :
يقول الإمام محمد عبده في تفسيره لجزء عم ص 82 (( وأنت ترى أحوال الناس إلى اليوم لاتزال كما ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة ، فإن أرباب السلطة والقوة يظنون أنهم في أمن من عقاب الله ولا يعرفون شيئاً من شرعه يمنعهم عملاً مما تسوق إليه شهواتهم ، وإنما يذكرون الله بألسنتهم ، ولا يعرفون له سلطاناً على قلوبهم . والفقراء الأذلاء قد صغرت نفوسهم عند أنفسهم ، فهم لا يبالون بما يفعلون ؛ فإذا ذكروا الله فإنما هي حروف وأصوات لا تمتاز في منفعتها عن أصوات بقية العجماوات ..!!)).
تلك حالة الإنسان الذي لم يمتعه الله بعقل سليم ودين صحيح ، أما الذين أنعم الله عليهم بنعمة العقل والدين فأولئك الذين ترتقي إلى مثل حالهم مرتبة الإنسان ، فيفارقون تلك الغرائز الحيوانية الأولى ويصلون إلى المقام الذي لا تذهلهم فيه القوة ، ولا يشغلهم فيه الفقر عن مراعاة الحدود المعروفة فيما هو حق لهم أو عليهم
هذه آيات قرآنية نفسية كاشفة تُرينا أن الإنسان إذا ما نزلت به الشدائد ووقع في المآزق ، وألفى نفسه بين رحى المصاعب التي تكاد تطحنه ... عندئذ تضيق الدنيا الواسعة في عينيه ، ويرى السبل الواضحة وقد انبهمت عليه ، ويسوَّد العالم أمام ناظريه ، وتتأزم نفسه فتدفعه إلى الانهيار واليأس والاستسلام للأفكار السوداء ، ويستعجل الشرَّ لأهله وذويه ، ويستعجل أيضاً نهايته لعلها تضع حداً لما هو فيه ، فيدعو على نفسه أو على أهله أو على ماله ، يدعو دعاء كله شر وكله غُرم وضيم .. ولو استجاب الله دعاءه لأهلكه وأباده وقضى على أهله وماله وولده ... ولكن الله العفو الغفور الحليم الرحيم اللطيف لايستجيب لمن دعا على نفسه أو أهله رأفة منه على هذه النفس الضعيفة وشفقة على هذه النفس القلقة ؛ لأنه خبير عليم .. خبير بأحوال الأناس عليم بنفسياتهم :
الملك 14
ومن يتجه هذا الاتجاه اليائس ويتصرف هذا التصرف الأعمى ، فيدعو على نفسه حذَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما رواه الحافظ أبو بكر في مسنده عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : (( لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم ، لا تدعوا على أموالكم لاتوافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم )) .
الجحود بعد زوال البلاء ..
والإنسان من طبعه الجحود ونكران الجميل ، يتجاهل اليد التي امتدت إليه بالإحسان والمعروف ، ويضرب صفحاً عما أسدى إليه من خير وبر ، ويتنكر للشخصية النبيلة التي قدمت له طوق النجاة فدرأت عنه الشر ودفعت عنه الضرر
هذا الإنسان لن يجد طريقه دوماً مفروشاً بالورد ، هيناً ليناً ناعماً إلى الأبد .. بل سرعان ما تتناوله الخطوب وتتناوله الأحداث وتنزل بساحته المصاعب والمصائب ، فإذا ما وقع في الكرب وأحاطت به الشدائد ووقفت في طريقه العقبات آنئذٍ يجأر بالشكوى ويجهر بالرجاء ، ويدعو ويتضرع ويبتهل ويتوسل وهو قلق حائر لا يرى باب الأمن ، ولا يهتدي إلى طريق الخلاص . ويفصِّل القرآن تلك الحالة النفسية لذلك الإنسان الأول :
يدعو ويكثر من الدعاء في جميع حالاته .. يدعو في قيامه وقعوده . وفي صحوه يتوسل ويبتهل ويتذلل ويمد أكف الضراعة لمولاه ليكشف بلواه ، وتسيح دموعه من مآقيه حتى يكشف المولى الكرب الذي هو فيه ، ويلقي إليه وذاب المكروه وزالت الغُمَّة ووصل إلى مرفأ الأمان وتيقن السلامة أعرض ونأى بجانبه وذهب كأن ما كان به من ذلك شيء . هذه الزاوية الإنسانية تجلوها تلك الآية القرآنية :
وبعد أن آبان القرآن صنيع هذه النفس الناكرة للجميل التي لم تف بما تعهدت به إبان الشدة وبما قطعته على نفسها وقت المحنة من الرجوع والإنابة والعودة إلى الطريق .. بعد أن أبان القرآن ذلك كله ذمَّ هذا الإتجاه النفسي فختم هذه الآيات الكاشفة بقوله :
﴿ كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ﴾
النفس المؤمنة والمطمئنة ..
أما النفس الخيرة ، المؤمنة ، التي رزقها الله الهداية والتوفيق والسداد والرشاد فإنها مستثناة من الوقوع في تلك الهاوية ، وهي بمنأى عن الإنحراف ، وبمنجى عن المؤاخذة ؛ لأنها نفس مؤمنة صابرة ، نفس وفية نقية تقية تحقق الوعد وتنفذ العهد ، تدخل في عداد تلك النفوس الصابرة في البأساء الشاكرة في النعماء ، التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عجباً لأمر المؤمن ، وإن أمره كله لعجب : إن أصابته ضراء فصبر كان الصبر خيراً له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن )). وعن صور الوفاء بالعهد بعد أن جلا الكرب وزال المكروه ما ذكره محمد بن إسحاق عن عكرمة بن أبي جهل قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم - مكة ذهب عكرمة فارّاً منها .. فلما ركب البحر ليذهب إلى الحبشة اضطربت بهم السفينة فقال أهلها : ياقوم ، أخلصوا لربكم الدعاء لا ينجي ها هنا إلا هو .. فقال عكرمة : والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره فإنه لا ينجي في البر أيضاً غيره ، اللهم لك عليَّ عهد لئن خرجت لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد فلأجدنه رؤوفاً رحيماً . فكان كذلك .
أمراض المدنية الحديثة ونعمة الحمد والرضى
مصغرة بنسبة : 88% من الحجم الأصلي [ 577 x 46 ] - إضغط هنا لعرض الحجم الأصلي
والمدنية الحديثة بضجيجها وصخبها وماديتها الشرسة الجامحة وتكالبها المسعور المحموم قد بعثت القلق في النفوس وأورثتها أمراضاً أشاعت في الأجسام أسقاماً عزَّ علاجها .. والطب الحديث بمبضعه السحري ونظراته وتجاربه قد تحير أمام أدواء النفس ، ولم تستطع عقاقيره أن تنفذ إلى الأعماق لتذيب ما تركز فيها من بأس ، وما شاع بين أنحائها من ألم نفسي صبغ الحياة بلون أسود فاحم !! والقرآن من قبل ذلك كله قد حصَّن النفس من أن يتسرب ظلام اليأس إلى أعماقها ويتمكن منها أخطبوط القلق بأنفاسه السامة ونفثاته المحرقة فشخص العلاج في أكسيره الناجع : الحمد .. الحمد بكل ما يحمله الحمد من معنى ، وبكل ما يشيعه من أمان واطمئنان ، وبكل ما يشعه من رضا جعله علاجاً للقلق ودواء للاضطرابات والقنوط ، وأكسيراً يتجرعه المؤمن فيسكن الاضطراب ويسكت القلق ويسكب الاطمئنان برده على المؤمن الحامد فيفيء إلى واحة فينانة من الرضا يستظل بظلالها ويتنفس الصعداء ويحس نسمات الأمن تهب عليه رخية ندية .. وحمد الله دعاء فيه طمأنينة نفس تُزيل ما ترسب في الأعماق من اهتزاز عواطف أو جموح أحاسيس .. وحمد الله وقود روحي يصهر النفس ويزيل ما ران عليها من شوائب اليأس ويشحذ الأفئدة بفيض من أمل وأمن ورضا وتفاؤل وراحة روحية ، وبذا تغدو النفس هادئة مستقرة مطمئنة .
مصغرة بنسبة : 88% من الحجم الأصلي [ 580 x 80 ] - إضغط هنا لعرض الحجم الأصلي